الكاتب العراقى هيثم نافل والى يكتب لـ«أمان»: رسالة لا حكم.. ودين لا دولة

«حكمنا نحن شيخ جامع الأزهر بإجماع 24 عالمًا معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ- على عبدالرزاق- أحد علماء الجامع الأزهر، والقاضى الشرعى بمحكمة المنصورة الابتدائية، ومؤلف كتاب- الإسلام وأصول الحكم- من زمرة العلماء، وطرده من وظيفته، وقطع مرتباته فى أى جهة كانت وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، ثم التنويه بحرمانه من الرعاية المصرية- وفى عرفنا الحاضر يعنى ذلك- إسقاط الجنسية المصرية عنه».
بهذا الحكم نبدأ مقالنا، ونبثه على العالمين لعلهم للعبرة التى نبتغيها يفطنون، سنوات طويلة يبحث فيها القاضى على عبدالرزاق فى كتب التاريخ المنصفة محاولًا أن يجد ثغرة ينبثق منها النور المعرفى على أخطر حقبة عاشها العرب فى القرن السادس الميلادى لما لها من أثر بالغ جعل أمتهم تتغير نحو آفاق لم يكن يدركوها، ويفطنوا لأمور لم يقربوها من قبل.
فأقبل عليهم الشيخ عبدالرزاق ببحثه العلمى المتخالف عليه، والذى أحدث حوله ضجة لم يعرفها التاريخ العربى المعاصر، ثم جاء بعدها قرار الأزهر الذى كان قاطعًا كالمقصلة، عميقًا فى قلب الشيخ مما جعله يركن إلى الانزواء والاختفاء كما يحدث فى الغالب مع المبدعين عندما يساء لهم بغير حق، يتجاوزون عليهم لأنهم ينحازون للمعرفة وليس للخرافة، للعلم وليس للأسطورة، للحقيقة وليس للخيال، وكأنهم بأحكامهم تلك يقولون: هذا عقاب كل من يحاول أن يعرف. فالظلمة حسب عرفهم تفوق سماحة النور، والسلطة تتغلب على قوة المعرفة مهما كانت.
وقتما ظهر كتاب الشيخ عبدالرزاق الذى كان يتناول فيه موضوعًا خاصًا لم يتجرأ من قبله أحد الخوض فيه ألا وهو: هل أن خليفة المسلمين ملك، أم لا؟ وهل للخليفة صفة دينية أم دنيوية؟ وهل يرسى زعامته بالتأثير الدينى أم بحكم السيف ورهبة القوة؟ هذا ما أراد إثباته الشيخ على عبدالرزاق فى بحثه الرنان الذى كان له صوت الذهب عندما يسقط على أرض صلبه، هذا وحده كان كافيًا لأن يحكم عليه من قبل جماعة الأزهر.
الغريب هو أن الزعيم سعد زغلول بعد قراءته للكتاب صرح بالتالى: «قرأت كثيرًا للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتبه الشيخ على عبدالرزاق».
ففى عام الظهور، ونعنى به، عام صدور الكتاب 1925 أحدث كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ ثورة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ العرب المعاصر كما قلنا ولم يوازيه فى القوة إلا كتاب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين- الشعر الجاهلى- الذى صدر بعد عام من أزمة القاضى عبدالرزاق وحوكم عليه وقتها، تم فصل العميد من الجامعة المصرية وبعد الاستئناف تم تعويضه وترقيته وزيرًا للمعارف المصرية، لكن هذا الأمر فشل فيه شيخنا عبدالرزاق، فلم يعوض ولم يرفع عنه الحصار إلا بعد أن حصلت تغيرات فى وزارة الملك فؤاد بعد أن رفض وزير الحقانية تنفيذ قرار الأزهر وتم تبديله بعد أن شعر الملك بوجوب تخفيف الحكم وذلك بإعطاء الشيخ راتبًا يعيش منه، لكنه ظل محرومًا من الدخول مجددًا إلى زمرة علماء الأزهر، ولم يعد لمزاولة عمله كقاضى شرعى فى مصر. كل هذا جعل الشيخ يكون سلبيًا فى حياته وإنتاجه، فهو لم يكتب بعدما حدث وما تعرض له حرفًا للعالمين.
ترى ما الذى قاله الشيخ فى بحثه ليحصل كل ذلك؟ نستطيع تلخيص بحثه فى نقاط أساسية هى التى أثارت غضب الأزهر من ناحية والملك فؤاد الذى فهمه على أنه موجهة ضد خلافته من ناحية أخرى: عنوان مقالنا هو خلاصة كتاب الشيخ القاضى على عبد الرزاق «رسالة لا حكم، ودين لا دولة» ويقصد بها بالحرف، الإسلام رسالة دينية بشرية، لا حكومة ولا دولة إسلامية. ثم يدرج نتائج بحثه وخلاصتها: أن الإسلام لم يقرر نظامًا معينًا للحكومة، فترك للمسلمين مطلق الحرية فى تنظيم أنفسهم طبقًا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التى يتواجدون فيها مع مراعاة مقتضيات الزمن.
الخلافة ليست نظامًا دينيًا، والقرآن لم يشر أو يأمر بها. الدين الإسلامى برىء من نظام الخلافة. الخلافة شلّت كل تطور فى شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة خصوصًا بسبب التعسف الذى أنزله بعض الخلفاء بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية، فأنهم قد صاغوها فى خير قالب يتفق مع مصالحهم. الخليفة هو خليفة النبي، وهذا خطأ شائع.
وعندما صدر الحكم على شيخنا صرح للصحافة وقتها بالحرف: «لقد أخرجنى الحكم من هيئة علماء الأزهر، وهى هيئة علمية أكثر منها دينية، ولم ينشئها الدين الإسلامي، ولكن أنشأها مشروع مدنى لم تكن له أى صفة دينية، ولأغراض إدارية، وعلى هذا الأساس فإنى لن أكون فى حسن الإيمان والإخلاص للإسلام أقل من أولئك الذين قضوا بإخراجى».
ثم ينهى كتابه بخلاصة خالصة تقول: «الحق أن الدين الإسلامى بريء من تلك الخلافة التى يتعارفها المسلمون، وبرىء ممن هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست فى شىء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة».
ترى ما العبرة المستوحاة مما تقدم؟ قبل أن نجيب عن هذا التساؤل الخطير، نود أن نقدم مثالًا واقعيًا حدث لى قبل يومين بالتحديد: قد سئلت من أحدهم، لماذا تذكر فى حديثك بأن الإبداع لن يتحرر إلا بكسر القيود وقضبان السجون التى تحد منه وتحيط به، ووقتها فقط تقول، بأن الإبداع يتحرر ليقول كلمته؟!
جوابنا هنا سيكون خلاصة بحث الشيخ على عبدالرزاق فى كتابه القيم «الإسلام وأصول الحكم» وهو يجيب عن تساؤل ذلك الذى ينكر علينا قولنا فى الحرية الواجب مراعاتها وتواجدها كى يبدع الفنان والمفكر والعالم، يقول الشيخ بالحرف: «أن جناية الملوك- الخلفاء – واستبدادهم أضلوا الناس عن الهدى، وعموا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم، وأذلوهم، وحرموا عليهم النظر فى علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم، وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون ذلك الدين مرجعًا، حتى فى مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة. كل ذلك انتهى بموت قوى البحث، ونشاط الفكر بين المسلمين، فأصيبوا بشلل فى التفكير السياسي، والنظر فى كل ما يتصل بشأن الخلافة والخلفاء».